22 يناير 2015
مراجعة لكتاب "سيكولوجية الجماهير" لغوستاف لوبون













مذ تعرفت على فرويد و أطروحاته في عل النفس و التحليل النفسي، و مذ قرأت له عديدا من كتبه التي رغم تاريخ نشرها الذي يعود إلى القرن ١٩ لا زال لها صدى لدى قراء قرننا الحالي، و أنا أهتم بالسيكولوجية و علم النفس فإن تردد على مسامعي مصطلح "نفس" شد انتباهي أيما شد، و إن وقع بيدي كتاب عليه كلمة "سيكولوجية" التهمته أيما التهام. فشاءت الأقدار و الصدف يوما أن تعرفت في إحدى حصص الفلسفة على مؤسس علم نفسية الجماهير غوستاف لوبون، و كان اسمه ساعتها غريبا يكاد علمي به ينعدم .. غوستاف لوبون ؟ من يكون هذا الرجل ؟ أهو من فلاسفة الجرمان ذوي اللحي الكثة ؟ أم هو من بلاد الغال أصحاب اللحي المشذبة ؟ و أخذت أتصفح في شيء من الهستيرية المقرر الدراسي و أقلب صفحاته يمنة و يسيرة بتلكم العين النهمة لعلني أجد ما أكرعه من معلومات أروي بها ظمئي إلى حين، و يا لها من لحيظات تلك التي تشعر فيها بجهلك و ضعفك و تواضع معرفتك، كيف لي ألا أجيب و أنا الذي أزعم إلمامي بكثير من الفلسفات ؟ هو ذا الهاجس القلق الذي يرفع عن عينيك غلالة العلم و الإلمام الموهمة و يجعل من معرفتك التي تتغنى بها أمام الأصدقاء ذرة متناثرة في كون المعرفة الفسيح و يجعلك تقول رغما عن أنفك و أنفتك "لقد فاتني الكثير" و إن نظرت شيئا ما أبعد من ذلك فقد تصدم بما ستراه و تفقد أمامه صوابك، فكم هي العلوم التي تخرج للوجود يوميا و كم هي الكتب التي تقذف بها المطابع على مدار الساعة، فإن فطنت لذلك سيكون حينها حتما قد فاتك أكثر.

و كان ما كان، و سألت يومها صديقنا غوغل الملم بكل شيء، فكان جوابه بينا موجزا، أن هو الطبيب و عالم الاجتماع و النفس الفرنسي، و أن هو صاحب كتاب "سيكولوجية الجماهير" الذي بوأه مكانة رفيعة في عالم الفكر و المعرفة، و الذي رغم كرور السنين عليه و تعاقب القرون ما زال مرجعا للعديد من الباحثين في علم النفس و علم الاجتماع. فما إن علمت بكتابه هذا حتى شددت العزم على قراءته و رفع سقف معرفتي .. و إن كان بسنتمترين أو ثلاث. 

و بدون أن أطيل عليكم، فقد قرأت الكتاب، و طالت رحلتي بين دفتيه أسبوعا، و ها أنذا اليوم بعد أن فرغت من مشاغل الحياة، بل و إن توخيت الدقة حياة المشاغل، أجلس في مكتبي و بين أوراقي التي تنضح برائحة الحبر و المرارة لأكتب السطيرات هاته عن "سيكولوجية الجماهير" لعلني أجد فيها الأنس و الصديق الحسن يوم يغيب الأصدقاء و تأت الشيخوخة.

في "سيكولوجية الجماهير" نحن أمام عمل متكامل يحتاج لأشهر حتى تستوعب أفكاره كاملة و تهضمها، و بعيدا جدا عن مسألة الصواب أو الخطأ، فصفحاته التي لا تزيد عن المئتين إلا بقليل قد تعطيك الجواب الشافي و الوافي عن أسئلة تبادرت لذهنك و ذهني و أذهان الجميع، فمن منا لم يشهد ظاهرة الشغب و إن على شاشة التلفاز، و من منا لم يفجعه مشهد مظاهرة أو وقفة جماهيرية انتهت بالقتل و السلب و التخريب ؟ كلنا تساءلنا حينها في حيرة و شدوه عن ماهية الجماهير، أفعلا سيمتها العنف ؟ أفعلا يغيب الوعي فيها تاركا مكانه شاغرا أمام لا وعيها ؟ و من يكون ذلك المارد الذي يحركها كالدمى بخيوط شفافة كيف ما أراد و وقت ما شاء ؟ أهو شخص من دم و لحم ؟ أم هو أفكار و عقائد ؟ كيف للعواطف المتطرفة و الشعارات الطنانة الرنانة و الكلمات المطاطية المبهمة المعنى (كالمساواة و العدل و الحرية ...) أن تجعل من الجماهير سكينا يقطع دابرة كل اختلاف و يفصل رأس كل معارض عن جسده ؟ كلنا قرأنا عما حدث للخلفاء الراشدين من قتل و اغتيال على يد رعاع القوم و سقاطهم الذين تكتلوا ضدهم، و كلنا رأينا ما حدث من سلب و نهب و تخريب، بل و سفك للدماء جراء الثورات العربية و بعدها، و كلنا نشهد الآن حملة الترهيب التي تشنها التنظيمات الإرهابية و الجماعات المتأسلمة. فهي جماهير و كلها في سيمة العنف مشتركة، أما نحن -الأفراد المعزولون- فلا نجد لأفعالها تفسيرا.

و لنضرب على كلامنا هذا مثال أحداث "شارلي" الدامية و ما تلاها من صخب إعلامي و هيجان شعبي، حيث تكتلت الجماهير و هتفت الأفواه "إلا رسول الله" و "لتكن عبرة لمن يعتبر" فإن صرحت في لحظة من لحظات هيجانهم تلك بتضامنك مع ضحايا ذاك الإرهاب لاقيت منهم أفظع الشتائم و أحط الأوصاف و أصبحت في عداد "الكفرة المرتدين"، أما إن كنت من ذوي الحظ البئيس فستأتيك لكمة من هنا أو ركلة من هناك على أقل تقدير. فهذا هو حال الجماهير، فهي متعصبة لرأيها لا تحتكم إلى العقل محرومة من كل روح نقدية، ولو كانت لديها مثقال ذرة من تلك الروح لعلمت أن الرسول (صلعم) كان متسامحا حتى مع ألد أعدائه، حتى مع قريش التي لاقى منها أشد العذابات. و أنني بتضامني مع الضحايا أقر بحقي و حقهم و حق الجميع في الحياة مهم اختلفت عقائدنا و معتقداتنا و تعارضنا في الأفكار و الآراء.

نعم، إن الجماهير النفسية في رأي لوبون مغفلة، بل و أحط من ذلك، نزقة سريعة الانفعال، ساذجة سريعة التصديق فإن آمنت بفكرة دافعت عنها حتى الموت و إن تعصبت لرأي نحرت كل من سولت له نفسه تبني ما عداه، فالحالة الطبيعية للجمهور المغيظ هي الهيجان و الثبات على الفكرة و تحويلها إلى فعل مجرم حينا و فاضل أحايين أخرى، فكما يمكنها أن تدمر و تسلب و تنهب يمكنها أن تكون بطلة كريمة تضحي بدون مصلحة. و هكذا يبدو أن لوبون يزدري الجماهير، يمقتها، يرى فيها حجر عثرة في درب التقدم فنجده لا يحيد عن مهاجمتها كلما سنحت له الفرصة، و حتى و إن لم تسنح، فيعيب الاشتراكية و يصف التنظيمات النقابية و التكتلات العمالية بتجمع للرعاع ينقاض وراء أتفه الأساطير اللاعقلانية.

و لا يستثني لوبون الطبقة المثقفة من القائمة، فلما كان اللاوعي السمة الأساسية للجمهور و لما كانت أفعالنا الواعية متفرعة عن جوهر لاواع مشكل من التأثيرات الوراثية الموروثة عن الأسلاف فبين العالم الفذ و العامل البسيط فرق يكاد ينعدم في حالة إن وجدوا تحت سقف الجمهور، فما ينطبق على رعاع القوم ينطبق على خيرتهم و كل هذا -حسب لوبون- مرده للعرق التاريخي.

لا أدري هل يمكننا القول بأن لوبون قد أخطأ أو أصاب فيما يقول، و إن أردت رأيي فإني أراه قد أصاب، لكن على كل حال فالكتاب سلس بعيد كل البعد عن تمنطق الفلاسفة و غموضهم الذي لا نخرج منه غالبا بطائل، و إن لم يقع الكاتب في خطأ التكرار عدة مرات لكان لقراءة كتابه هذا طعما أجمل.