27 سبتمبر 2014

زوربا .. تلك الرواية التي تبصم بأنامل من ذهب بصمة على الذاكرة و تحتل مكانا بين طياتها فلا تبرحه حتى مع كرور السنين .. رواية تحمل شيئا فريدا عجيبا قلما تجده في غيرها .. شيء من كزانتزاكي الروائي الفيلسوف و القومي اليوناني، و عنده و حده تلقاه .. شيء يجعلك تقرأ الرواية بعزيمة نهمة لا تكل و يرغمك على التوقف عند كل جملة حتى تهيم متأملا لتستشف معانيها، فتبتسم لها تارة و تحير في أمرها تارة أخرى.. ف"زوربا " هي من طينة الروايات التي تغير نظرتك للأشياء و تجعلك تبحر في نقاش مع نفسك فتسبر أغوارها و تقيس معدنها .. هي تلك الصراع الأزلي بين القلم و الفأس.. بين الموت و الحياة ..بين الإيمان و الإلحاد .. صراع بين "زوربا" المجنون الراقص المحب للحياة و صديقه المتعقل المؤمن المنغمس في الإيمان .. صراع النقيضين الذي لا تفتأ تخمد ناره حتى يشتد وطيسها من جديد .. نار تتأجج بدواخلنا و تدفعنا لنتساءل و نخوض أشواطا من الريب و الشك و تقليب الفكر يمنة و يسرة .. فنسأل و نقول : ما الله و ما الدين ؟ ثم ما الحياة و ما الموت ؟ و ما تزيد النار إلا اتقادا و احتداما و ما يزيد لهيبها إلا استطارا فتأتي بأخضر دواخلنا و هشيمها .. و ما أن نفقه الفاجعة حتى يتراءى لناظرينا تحت شعاع الفجر الكليل نبيتات خضراء منداة بالندى تنفجر من الأرض الجرداء .. فتلك هي دورة الصراع .. نبات يذهب و آخر يجيء .. معتقدات تذهب و أخرى تجيء .. " من أجل بناء معبد لا بد من هدم معبد آخر" كما قال نيتشه ..

فالإنسان كائن غريب .. كتلك الكلمة التي تعني الشيء و ضده .. إنه تركيبة جدلية لا يستوعبها تعريف .. إنه شيئين في واحد .. أو نصفين يشكلان واحد .. و هذا هو الأصح.

و ألكسيس زوربا - بطل الرواية - هو رمز نصف الإنسان  الأول و صديقه رمز النصف الثاني .. فزوربا هو النداء الذي يتردد كالصدى في نفوسنا يدعونا لكسر القيود و الأصفاد و محو الخطوط الحمراء ..هو الذي يصرخ آمرا : " هيا .. طر .. حلق في الأفق كالكواسر و لا تخف " .. و يلفظها عاليا : " أنت حر !" .. هو ذاك الحلم الذي يراودنا صباحا مساء يصورنا نركد بعيدا و قد اجتزنا معابد الأعراف و أسوار التقاليد و انفككنا من قالب الحضارة الملتصق بنا مذ فقهنا الحياة، فنرقص و نصرخ آنا شئنا غير آبهين لما يخبئه لنا القدر المعتم .. فزوربا هو الإنسان المجرد .. و ما صديقه إلا صورة مشوهة طمست معالمها الحضارة الهوجاء ..

إن كزانتزاكي كان يستحق جائزة نوبل للأدب أجدر الاستحقاق..

0 التعليقات